مكتب الإعلام/ كتابةوتقديم / أحمد محمود السلامي:
في 7 أغسطس نحتفل عن بعد ، بقلوبنا ووجداننا بالذكرى 71 لتأسيس إذاعة عدن ، ذلك الصرح الإعلامي الذي ظل يملأ أثير العالم بصدى صوته ونبل رسالته : هنا إذاعة عدن .
نحتفل بهذه الذكرى المجيدة، وكلنا أمل أن تسترد إذاعة عدن أنفاسها من جديد، ويصدح صوتها بعد عشر سنوات من الغياب، ليحمل من جديد رسائل الوعي والثقافة والانتماء . وبهذه المناسبة، أعيد نشر ذكريات الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان، أحد الرعيل الأول الذين ساهموا في وضع اللبنات الأولى لهذا الصرح العظيم ، وقد نشرها لطفي عام 1965م في نشرة خاصة بالذكرى 11 لتأسيس الإذاعة.
ـــــــــــــــــــــــــ
شريط من الذكريات
بقلم لطفي جعفر أمان
كنا اربعة زملاء نرعى هذا الوليد الجديد في بيتنا الثقافي : اسم الوليد “محطة عدن للإذاعة” وتاريخ ميلاده ١٩٥٤م .. اربعة زملاء نعمل جميعاً في اوقات اضافية وكلنا كنا معلمين حسين الصافي وعبد الله حاتم ومحمد سعيد جراده وانا .. و على رأسنا ضابط الاذاعة اللبناني توفیق ایراني ، والمستشار البريطاني المستر مارسك وكان ذا خبرة في الشؤون الاذاعية وقلب ابيض كبير ..كانت دار الاذاعة في نفس المبنى ولكن بطابق واحد واستديو واحد وآخر صغير كان الواحد منا يذيع منه على الهواء ويسيطر فيه كل مفاتيح الإرسال الصوتي والاسطوانات وجهاز التسجيل اليتيم لم يكن لدينا مراسلون للأخبار ولا آلات نقل الأخبار اتوماتيكياً عبر البحار توفيق ايراني ببراعته وعبقريته كان يسرق الأخبار من مختلف الإذاعات ويصب صياغتها من جديد بأسلوبه الخاص ويمليها علينا ارتجالا .. كان رائعا .. وكانت معلوماته السياسية ذات أبعاد وحلقات تاريخية محكمة .. ولكنه كان جهولا بقواعد اللغة فكان يعتمد علينا في تشكيل نشرة الأخبار .. واذا شاء أن يقرأ تعليقا سياسيا كتبه بنفسه استدعاني إلى مكتبه وطلب مني تشكيل أواخر الكلمات بالحبر الأحمر .
اشهد اني تعلمت من توفيق ايراني الاحتراس والابتكار في التصرف الإذاعي فهو ليس سهلا . فاذا زاد في الوقت دقيقتان مثلا بين برنامج وآخر ابتدعت قصة خرافية تمهيداً لأغنية قادمة أو قرأت ابياتاً من الشعر تعجبني .. أو حادثة طريفة اسردها كبرنامج مستقل .. وكنت نادراً استعرض برامج الليلة لتغطية الوقت كنت أشعر أن كل دقيقة في نطاق الساعة الواحدة .. وهي فترة الإرسال يومئذ يجب أن تشبع المستمعين بوجبات غنية منوعة فيتاميناتها .
في مكتبة الاذاعة الغنائية وجدت مجموعة كبيرة مهملة من الاسطوانات الصوتية المسماة (المؤثرات الصوتية ) فكنت اول من استغلها . نظمت مسرحية شعرية بعنوان “حائر في السماء” وانتقيت لمواقفها مجموعة من هذه الأسطوانات وادخلت الى الاستديو لأول مرة العنصر النسائي ثلاث فتيات يشاركنني التمثيل : فوزيه وفريدة واميرة وكنت المخرج والممثل والحاكي وضابط اصوات الفتيات وأصوات ثلاث اسطوانات من المؤثرات الصوتية إحداها المطر ، والثانية لرياح والثالثة لترانيم كنائسية وكنت ادير احيانا اسطوانتين معاً والعب بمفاتيح الارسال ٠٠ كان العمل دقيقاً وموزعاً ويجب ضمه في انسياب هارموني . ونجحت التجربة و لكن الفتيات لم يكن موفقات فأخرجت مسرحية « شاعران في حانة » وقمت بمحاكاة اربعة اصوات مختلفة بصوتي ثم مسرحية مجنون ليلى لشوقي وقد قمت لوحدي بدور المجنون وليلاه وكان وابيها وخادمتها المستمعون يوقفون يقيناً أنها لمجموعة من المساهمين .. واذكر انني في انتهائي من أحدى هذه المسرحيات أن نفضت العرق من جبيني وخرجت من الاستديو الضيق واذا ( بالوالي ) السير توم هیکينبوتام أمامي ومعه توفيق ايراني وكانا يرمقانني خلال زجاج الاستديو و ضحك الوالي وقال هل تخرجت من هوليود ؟؟
ماذا اقول ؟ الذكريات تترى وصور الماضي تنفرط من شريط طويل عزيز.
كانت اغانينا المحلية تذاع من اسطوانات مسجلة لندوة الموسيقى ولرابطة الموسيقى لخليل محمد خليل وسالم بامدهف في أوجيهما من الفن والشهرة .. ولم يكن احمد قاسم والمرشدي ومحمد سعد وغيرهم سوى اسماء باهتة تتراءى على أفق بعيد .. وكان المتحدثون من كبار رجال الفكر والأدب عندنا : محمد عبده غانم ومحمد حسن عويلي ومحمد علي لقمان واخواه محمود وحمزه وابناه علي وحامد وعبد الرحمن جرجره والشيخان البيحاني والباحميش ومن الشباب عبد الله باذيب واحمد شريف الرفاعي ومحمد سالم باسندوه ، وكان لا يقف امام الميكرفون الا من اتسع علماً وعظم قدراً.
لوحة الماضي العريض تتمرى عليها الوان من الذكريات ولهذه الصفحات جدود لابد ان يستريح في راحتها القلم ولو لفترات •
همسة اخيرة : لقد انتهى توفيق ايراني وانتهى المسترمارسك وظللنا نحن الزملاء الأربعة القدامى نرعى نمو الاذاعة من بعيد وقريب إلا واحداً هو حسين الصافي الذي وهبها كل حياته وظل بقربها يتعهد عودها الأخضر بالسقي والنماء. و كلما اورق وازهر رسخت قدمه في تربتها وارتفع مقامه فيها .
لطفي جعفر أمان
عدن / أغسطس 1965م
د