دراسة للعناصر والمقومات البنائية لرواية (ترنيمة فارس السيرذاتية)

العاصمة عدن “مكتب الإعلام” خاص:

 

استعرضت دراسة لأستاذ الأدب الحديث والنقد المشارك بكلية صبر للعلوم والتربية في جامعة لحج، د. أمين صالح أحمد العلياني، العناصر والمقومات البنائية لرواية (ترنيمة فارس السيرذاتية) لعوض العلقمي.

وينشر (مكتب إعلام العاصمة عدن) نص الدراسة:

*مدخل:

شهدت الكتابة عن الذات في الفنون الأدبية قديمًا وحديثًا حضورًا كبيرًا ومميزًا تجلى بالشعر حينًا، والأجناس النثرية حينًا آخر، غير أنها في الأدب القصصي القائم على السرد صارت جنسًا أدبيًّا له هويته ومقوماته وشروطه الخاصة، التي أجبرت ذائقة المتلقي على ضرورة فتح آفاقه؛ ليمنحه قراءات متعددة نلمس فيها روح التجديد والتميز والإبداع والفرادة.

*المفاهيم والمصطلحات:

  نظرًا لتداخل فن السيرة الذاتية والرواية السيرذاتية والرواية فقد نتج عن ذلك جدلًا كبيرًا أثار أراء النقاد حول المفاهيم الواضحة، وتحديد المصطلحات الضابطة؛ مما حدا بالعلماء إلى الاجتهاد في تحديد ماهيتهما، ووضع تعريف واضح لكل منهما، وعلى وفق ذلك أجمعوا على أن فن السيرة هو: فنٌّ أدبي يعرض فيها كاتبها حياته وأفكاره بشكل صريح أو حياة أحد الأعلام المشهورين، الذين يقوم على ترجمة سيرة حياتهم، ومن هنا أصبح فن السيرة الذاتية نوع من الأدب الذي يجمع بين التقصي التاريخي لمسيرة حياة إنسان، ورسم صورة دقيقة لشخصيته.

أما الرواية السير ذاتية فهي “ممارسة إبداعية مهجنة بين من فنين سرديين معروفين: السيرة والرواية، لا ُيقصد بالتهجين معنىً سلبيًّا، إنَّما التركيب، الذي يستمد عناصره من مرجعيات معروفة، وإعادة صوغها على وفق قواعد مغايرة” . أما فليب لوجون فيرى أنها: ” حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، الذي يركز على حياته الفردية، وتاريخ شخصيته بصفة خاصة”، ويشترط فيليب على أن الرواية السير ذاتية يجب أن تكون كل الأعمال، التي  تجمع في الوقت نفسه الشروط اللغوية والموضوعية، وما يتعلق بالراوي، في حين لا تجمع الأنواع المشابهة للسيرة الذاتية.

  أما الناقدة تهاني عبد الفتاح فقد رأت في تعريف استاروبينسكي للرواية السيرذاتية اختزالًا غير واضح الملامح، الذي رأي فيها ما هي إلا “سيرة شخص يرويها بنفسه”، بينما يرى آخر أن غاية الرواية السير ذاتية حين يوظفها صاحبها على عمل سردي معتمدًا على معطيات قالب الشخصية؛ ليكون الهدف من وراء كتابتها إما توكيدًا أو تنفيسًا عن انفعالات أو حالة نفسية ألمت به أو تبريرًا لموقف غير مستساغ صدر منه أو دفاعًا عن قضية فكرية أو اجتماعية آمن بها.

     وبهذا يمكننا أن نستنتج من التعريف السابق: إن الرواية السيرذاتية فنُّ أدبي يجمع فيه المبدع أو من خلاله بين ما هو واقعي وما هو خيالي؛ كي يعكس التجربة الإنسانية في قالب روائي يجسد ما يعانيه المبدع أو يمارسه أو عايشه منطلقًا من واقعه، الذي يكون غير راضٍ عنه، وراغبًا في تغييره.

أما الرواية فهي” نص نثري تخييلي واقعي غالبًا ما يدور حول شخصيات متورطة في حدث مهم، وهي تمثيل للحياة والتجربة، واكتساب المعرفة؛ فالرواية تصور الشخصيات ووظائفها داخل النص، وعلاقاتها فيما بينها، وسعيها إلى غايتها”؛ لأن الرواية جنس أدبي خيالي ما يميزه عن غيره هو أنه نص يحاكي كل النصوص، وبنية تدمج فيه كل الأنواع والأجناس الأدبية، وهو الأمر الذي يؤكد عليه باختين من أن الرواية تسمح بأن تدخل إلى كيانها جميع الأجناس التعبيرية سواء أكانت أدبية كالقصص والأشعار والقصائد والمقاطع الكوميدية أم خارج أدبية كدراسة السلوكيات، والنصوص البلاغية، والعلمية، والدينية.

*فاعلية التداخل والتقاطع بين فن السيرة والرواية السيرذاتية والرواية:

إنَّ تداخل رواية السيرذاتية بميثاق الرواية أحدث تحولًا كبيرًا في مفهوم الرواية؛ حتى أصبحت الرواية السير ذاتية ظاهرة ثقافية أدبية متصلة بالعالم عبر التمثيل السردي، ومنفصلة عنه بحضور التعبيرية الذاتية للمؤلف؛ بوصفه منتجًا للنص، وخالقًا للعوالم التخيلية فيه؛ فضلًا عن التحول في شكلها وصيغها التعبيرية وموضوعاتها، وما يرافقها من تلاشي في النوع، وانفتاح النص فــ” كل تعبير فني جديد ينتج لا محالة صيغة جديدة لرؤية الأشياء، وهذا لا يتعلق بالنص الكتابي المُنتج، وإنَّما يتعلق بفعل القراءة التحليلية الواعية له؛ لأن فعل القراءة لم يعد استجابة لأفق انتظار بسيط، بل غدا يؤثر ويستجيب باعتماد كل قارئ على ثقافته ومنطقه في تقبل النص؛ بحيث تصبح حساسيته الفنية الخاصة دافعًا قويًّا في تحويل القراءة إلى “فعل إبداعي يؤدي إلى تجاوز الأجوبة النمطية الجاهزة، ويعمل على استحداث أنموذج قراءة من نوع جديد.

ومن  هنا يمكننا أن نفك شفرات الازدواجية بين الرواية السيرذاتية؛ بوصفها جنسًا أدبيًّا خالصًا يعتمد على سرد الأحداث الخيالية، التي تحمل أفكار الذات، وما تعانيه في إطارها الإنساني، والسيرة الذاتية؛ بوصفها جنسًا تعبيريًّا ذاتيًّا يعتمد على سرد الوقائع الحقيقة، التي تحمل الكثير من مضمرات البوح، واعترافات الذات خارج إطارها الإنساني(الأخلاقي والعقائدي والقيمي…)، ومن خلال هذا الجمع استطاعت الرواية السير ذاتية أن تواكب هذا الجنس الحديث المهجن، الذي اظهرته النظريات الغربية في أعمالها الأدبية والنقدية.

   والفصل في أواصر التداخل بين الرواية السيرذاتية وفن السيرة الذاتية نتج عنه فنًّا كتابيًّا سرديًّا يلتحم فيه السرد التخيلي مع وقائع حقيقية عايشها المبدع، وارتبطت به؛ بحيث يأتي السرد السيرذاتي في بناء روائي يتمظهر في هيئة أسلوب قصصي يتكون من أحداث وأزمنة وفواعل سردية تقدم بين أسطرها مرحلة معينة ومهمة من حياة المبدع سواء أكان عبر ضمير المتكلم بصورة واضحة أم بضمائر الغائب، التي يحاول عبرها إخفاء ذاته؛ بحيث يجعلها تقترب من الرواية، وتتداخل معها. ولعل أهم جنس أدبي تداخلت معه الرواية هو أدب السيرذاتية؛ لأن السيرذاتية تقترب من مجال الأدب؛ فيصبح الكاتب، الذي يهدف إلى تقديم رؤية خاصة إزاء الشخصية، التي يكتب عنها سواء أكان بالدفاع وتجميل الصورة، أم بالنقد وتشويه الشخصية.

 ومن هنا تلتقي السير ذاتية مع الرواية التاريخية ويقتربان فنيًّا من قواعدها؛ لتنطبق على السيرذاتية الأدبية سواء أكانت “ذاتية” ما كتبه الأديب عن حياته أم “غيرية” تهتم بما كتبه الأديب عن غيره؛ فالرواية السيرذاتية على وفق ذلك تصبح فنًا أدبيًّا يقوم على مضمون تاريخي يتشكل في إطار بناء روائي قريب من الرواية التاريخية.

   ومن هذا المنطلق نشير إلى ضرورة وجود فوارق رئيسة بين السيرة الذاتية، التي تكتب بغرض التاريخ، وضبط الحقائق، وبين رواية السير الذاتية، التي ينبغي على المؤلف أن يضفي عليها الصبغة الأدبية الخيالية؛ حيث أن مزج الأحداث والوقائع اليومية بالخيال هو شرط أساسي من شروط إضفاء الصيغة الإبداعية، والطابع الأدبي للسرد القائم على رواية السير الذاتية هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الرواية السير ذاتية يجب أن يتضمن السرد فيها على لقطات ذهنية من الحياة الشخصية للروائي، وهي لقطات ذهنية يظهر آثارها في النص المكتوب حتى لو لم يقصد الروائي أن يكون نصه السردي قائمًا على لقطات من حياته الشخصية.

  كما ينبغي التنبه إلى عدم الخلط بين رواية السير الذاتية؛ بوصفها فنًّا سرديًّا قائم على مسحة الخيال، والرواية؛ بوصفها شكلًا روائيًّا مستقلًا ومتميزًا؛ لأن الفوارق الرئيسة أيضًا بين الرواية المتعارف عليها ورواية السير الذاتية يتجلى من حيث وحداوية الحدث وتفرعه؛ فالحدث في الرواية قابل؛ لأن يتفرع إلى أحداث أخرى، وينقسم إلى عدة مشاهد، بينما الحدث في رواية السير الذاتية يقوم فقط على شخصية الراوي، ويتمحور حولها.

 *عناصر الرواية السير ذاتية:

 تم تحديد عناصر الرواية السيرذاتية، ووصيف مقوماتها في عدة عناصر، هي:

الحكي والأسلوب القصصي؛ بوصفهما عنصرين تقوم عليهما الرواية السير ذاتية من حيث الصياغة؛ لتميزها عن فن السيرة الذاتية والرواية.

 وتحديد موضوعها في حياة فرد أو تاريخ شخصية معينة في إطارها الزماني والمكاني.

وضعية المؤلف ويجب أن تتطابق شخصية المؤلف الحقيقة مع السارد.

وضعية السارد ويجب أن تتطابق مع الشخصية الرئيسة والمحورية(السارد/ الراوي، البطل)، وتموضعها في منظور استعادي يقوم على الحكي والقص من حيث انتقاء الذاكرة لبعض الأحداث، التي جرت في الماضي القريب والبعيد.

الميثاق المرجعي: وهو المتشابه مع الحقيقي والاقتراب منه إلى الدرجة التي تدني بالأطراف إلى حالة من الاتحاد.    

امتلاك موهبة فنية تساعده عل ذلك؛ لأن وجود الدوافع وحدها، لا تؤهله إلى كتابتها؛ فليس بمقدور كل إنسان أن يكتب سيرته الذاتية.

مميزات الرواية السيرذاتية :

   تمتاز السيرة اتية بمميزات خاصة تجعلها تنفرد بها عن غيرها من الأجناس الأدبيَّة الأخرى، ومن تلك المميزات:

انتماؤها إلى جنس الرواية من الناحية الفنية، وتحمل رؤية خاصة تعبر عن صاحبها.

تنبني على ميثاق تخيلي يصرح فيه الكاتب بأنه يحكي حياته، ويعرض مسار أفكاره ومشاعره.

التطابق بين وضعية المؤلف وشخصيته الحقيقة مع السارد من جهة، وضعية السارد مع الشخصية الرئيسة (البطل، الراوي).

تتسم الأحداث السردية بالمنطق والتماسك إلى درجة نقتنع معها أن أحداث النص، الذي نقرؤه قد وقعت بالفعل.

تتيح لصاحبها مساحة من الحرية من الحرية؛ ليكون له المجال مفتوحًا يخفي من خلله أشياء ويضيف أشياء أخرى.

مزج الواقع بشيء من الخيال، وربط الأحداث الرئيسة الواقعة بأحداث جانبية مخترعة، وتجلية الشخصيات المحورية الكائنة بشخصيات ثانوية مولدة أو ذكر صفاتها بهدف خلق توهمًا يوحي بالمغايرة بينهم من جانب، وبين المؤلف ومن شاركوه في أحداث تجربته من جانب آخر.

مزج الواقع بشيء من الخيال، وربط الأحداث الرئيسة الواقعة بأحداث جانبية مخترعة، وتجلية الشخصيات المحورية الكائنة بشخصيات ثانوية مولدة أو ذكر صفاتها بهدف خلق توهمًا يوحي بالمغايرة بينهم من جانب، وبين المؤلف ومن شاركوه في أحداث تجربته من جانب آخر.

 *العناصر الشكلية لرواية ترنيمة فارس السيرذاتية:

حول رواية ترنيمة فارس:

        جاءت رواية ترنيمة فارس السيرذاتية لصاحبها عوض العلقمي في ثلاثمائة وثمانية وسبعين صفحة، مقسمة في أربعة فصول، ومعنونة في (مولد الصبّار، المهجَّرون، رجولة قبل الأوان، وعودة مرتقبة) اعتمدها المؤلف؛ لإعطاء القارئ لمحة تاريخية وسياسية عن موضوعات الفصول، التي جاءت متميزة بقوة ترابطها فكريًّا وسرديًّا.   

    والمؤلف يروي أو يسرد الأحداث التي مرت بها حياته وعائلته ومنطقته، وما تعرضوا له من إقصاء وتهميش وقتل وتدمير وتهجير؛ بدءًا من عهد حكم السلطنات في الخمسينات إلى قبل الاستقلال مرورًا بالدولة الجنوبية الوليدة بعد الاستقلال من نهاية الستينات حتى منتصف السبعينات، والتهجير الى المنفى، والالتحاق بمعسكر المهجرين في الشمال والمملكة العربية السعودية من منتصف السبعينات إلى 1993م قبل الحرب بين الشمال والجنوب، ثم العودة  إلى وطنه في الجنوب مع الحرب الظالمة بين الشمال والجنوب في صيف 1994م، ثم محاولة إعادة مجد أهله وعائلته ومنطقته والاهتمام بمستقبله العلمي والتعليمي والسياسي ووصوله إلى أعلى الرتب والمناصب من 1994م إلى عام 2018م في زمن كتابة الرواية.

(2) عتبة العنوان:

     يعدُّ العنوان عنصرًا أسياسيًّا في قراءة نص الرواية السيرذاتية؛ فهو مفتاح العمل الإجرائي، الذي  يمكن من خلاله الولوج إلى أغوار النص، وكشف أبعاده المضمونية وأسراره الدلالية؛ لأن العنوان نص صغير يؤدي وظائف شكلية وجمالية ودلالية تعدُّ مدخلًا لقراءته لما يشتمل على مجموعة من العلامات اللسانية والعلاقات البنائية، التي تتمظهر على غلافه أو على رأس متنه؛ فتحدد ملامحه، وتدل على محتواه، وتستهوي المتلقي على مزيد من فعل قراءته.

ومن خلال التعريف السابق يمكن أن نستخلص ثلاث وظائف للعنوان، وهي:

تعين النص.

تحديد مضمونه.

خلق تأثير ضاغط على ذائقة المتلقي.

   وللعنوان معايير صارمة تجعل من وجوده على الغلاف، ورأس المتن مغازٍ دلالية، ووظائفً تعبيرية، وتحقيق تأثير على تلقيه، ومن هذه المعايير:

موقع العنوان وجماليته؛ فالموقع على الغلاف أو المتن المخصص له  والجمالية من حيث بروز أحرفه، ونوع ولون خطه، والتناغم الجمالي الايقاعي في نطقه. وقد جاء موقع العنوان في رواية ترنيمة فارس السيرذاتية على الغلاف بخط بارز، وأكبر من اسم المؤلف، وكان هذا دالًا على جذب الانتباه من جهة، وإظهار أهمية الرواية، وقيمتها لدى المؤلف من جهة أخرى. 

تركيب العنوان وصفاته؛ ففي رواية ترنيمة فارس السيرذاتية جاء تركيب العنوان جملة إخبارية توضح الحاجة لدى المؤلف إلى الحكي؛ بهدف إظهار كينونته المسلوبة بفعل التهجير وقساوة الإبعاد القسري عن وطنه.

دلالة العنوان، وهي دلالة ما يحمله العنوان من قيمة ذاتية تكون دالة على الشخصية المحورية أو حدث رئيس تدور حوله الأحداث جميعها، وقد جاءت عتبة عنوان الرواية السيرذاتية للكاتب عوض العلقمي المسماة ب(ترنيمة فارس) حمَّالة أوجه من الدلالات؛ نظرًا لجسارة ثقافة الكاتب الواسعة، وقراءاته العميقة في التاريخ والجغرافيا والدين والسياسة، وهذا ما جعل المتلقي لا ينظر للعنوان بصورة سطحية، بل يجب أن يكون على دراية بمستوى الكاتب، وخلفياته المعرفية ويقرأ دلالات العنوان على وفقها.

   ومن هنا؛ فالمتمعن في مضمون العنوان يجد أن الروائي عوض العلقمي لم يأخذ بهذا الاسم على طريق الصدفة والاعتباطية، بل جاء عنوان ترنيمته السيرذاتية فضاء نصيًّا مفعمًا بالاحتمالات الدلالية الواسعة، تضع المتلقي أمام تأويلات كثيرة؛ فالترنيمة لها تاريخ غارق في التاريخية اليمنية القديمة، وتعني القصيدة المسجعة، والأنشودة المرنمة في فضاء من القداسة، وعند الوقوف أمام هذا الاحتمالية؛ فالمؤلف أخذ هذا المعنى بحمولاته القدسية والتاريخية المتأصلة في أغوار الوجود الحميري القديم؛ ليضفي على المحتوى الروائي السيرذاتي ترنيمًا تاريخيًّا يجسد الأحوال المعبرة عن الوقائع المتشابهة بالمواقف والأفعال الدالة على الأصالة والهوية بين ذات إنسان حميري قديم عمل على توثيق تاريخه في ترنيمة كشفت عن حرمان عانته ذاته من ويلات الحروب والتمزق، وحاولت أن تجسده في لوحة تكون الشمس المعبودة شاهدة عليه وكان التاريخ شاهد على ذلك النقش، وذات روائي سارد (فارس) قام على توثيق تاريخ عائلة عانت الغياب القسري عن الوطن في ترنيمة كشفت عن حرمان مماثل، وكان التاريخ شاهد على تلك الحقبة؛ من هنا يأتي تسمية العنوان بالترنيمة؛ ليحمِّله المبدع السارد دلالة قارة في الوعي؛ بهدف تجسيد عمق الهوية، والانتماء للمكان، ومن هنا؛ فالمبدع يمدُّ جسرًا من التواصل الزمني، والترابط المضموني بين ماضي الترنيمة وحاضرها.

   ومن جانب آخر فقد يكون عنوان الترنيمة دالًا على البوح الذاتي الممزوج بخيالات الكاتب الواسعة أمام قسوة واقع أعترف بمعاناته، وقوة سطوته، وتأتي الترنيمة، التي حملتها شخصية البطل فارس كعنوان لروايته السيرذاتية؛ لتحمل فواعل لغوية تقوم على السرد؛ كي يمنح التاريخ حمولة دلالية قارة في الوعي الجمعي لمعاناة عائلة ومنطقة شردت، وهجَّرت وقتَّلت، ويرى الكاتب وجوبًا أن يحمل التاريخ أحداثها، ويعترف بقسوتها وظلمها، ويكون شاهدًا عليها؛ وعلى وفق ذلك تأتي شخصية البطل بضمير المتكلم منقذةً؛ لتعيد المجد المسلوب عن تلك العائلة والمنطقة؛ فيزيح عنها أستار الظلم، وآلالامه المتراكمة من جهة، وموثقةً لذلك التاريخ في تلك الحقبة الزمنية من أيام السلطنات مرورًا بتكوين دولة الجنوب الوليدة حتى عام 2018م، الذي ينتقده، ويضع المتلقي أمام مآسيه؛ بهدف تقييمه، والنصح بعدم تكراره من جهة أخرى.

 (3) اسم المؤلف:

  يعدُّ ذكر اسم المؤلف في رواية ترنيمة فارس السيرذاتية ذا أهمية كبيرة من جهة، ودلالة فنية جمالية من جهة أخرى؛ لأن اسم المؤلف يتوجب كتابته؛ ليمهد طريقة اتصال القارئ، وتعامله مع النص، ويمنح دلالة التطابق بين المؤلف والقارئ؛ لأن القارئ غالبًا ما يدفعه إلى قراءة النص؛ كي يفهم آثاره، وخلفياته المعرفية والثقافية والسياسية والاجتماعية، ومكنوناته النفسية هذا من جهة، ومن جهة أخرى يصبح وجود اسم المؤلف على غلاف الرواية السيرذاتية علامة دالة على وجود كائن اجتماعي يمتهن الكتابة، ويكون مسؤولًا عن كل ما كتب أدبيًّا وقاونيًّا.

وحين نرجع الى محتوى رواية ترنيمة فارس السيرذاتية للكاتب عوض العلقمي تتكشف لنا ذاتية المؤلف، الذي يروي أحداثه من منظور شخصية البطل البيروني الوحيد، ويرسم لنا مسار حياته الطويلة والممتدة من عهد الثورة إلى 2018م؛ بحيث تصبح ذاته هي التي تمثل البؤرة المحورية، التي تتمركز حولها الأحداث، وتعكس البعد الحقيقي للحقائق والوقائع الخاصة بسيرته الذاتية.

(4)  النص الملحق:

وهو الكلام الذي يقوله المؤلف خارج إطار نصه الروائي؛ بحيث يكون هذا الكلام في هيئة مقابلات صحفية أو كتابات أخرى تؤكد نزعته المرجعية لروايته، وتحديد هويته السير ذاتية.

وإذا رجعنا إلى كتابات المؤلف تجد عنده كثيرًا من النصوص اللاحقة، التي تكشف نزعته إلى الجنس الروائي السيرذاتي، مثل ما حاول إبراز توضيحه على غلاف الرواية الخلفي أو كتاباته الأخرى في كتبه التوثيقية المشهورة.

المكونات البنائية لرواية ترنيمة فارس السيرذاتية:

   (1) بنية الحكاية:

         والقارئ لمحتوى رواية ترنيمة فارس السيرذاتية للكاتب عوض العلقمي يتكشف أربع بنيات حكائية، وتشتمل كل حكاية مجموعة كبيرة من الأحداث الرئيسة والفرعية جاءت متناسقة ومتماسكة في خيوطها السردية، وهي:

حكاية مولد الصبّار:

         وهي حكاية محورية – (7- 60)-  جاءت لتسرد أحداث متعددة بضمير الغائب عن حياة عائلة ومنطقة تشربت وقار الوجاهة، ولازمت المحافظة على القيم، وجبلت على صفات الكرم والشهامة والأصالة، وعاشت في منطقة ريفية في إحدى مديريات محافظة لحج الغربية المحاذية لمحافظة تعز الشمالية، وكانت حكاية مولد الصبار في رواية ترنيمة فارس السيرذاتية يهيمن عليها الزمن الماضي وتتمحور أحداثها في فترة الخمسينات منذ حكم السلطنات حتى نهاية الستينات مع بداية الثورة، وولادة الدولة الجنوبية بعد الاستقلال، وكانت تلك الأحداث قد سارت بتسلسل زمني متتالي، وتتدرج فيها المشاهد بصورة تدريجية، وكانت الغاية منها، والهدف هو كشف طبيعة النشأة الأسرية للبطل فارس.

       ويهيمن ضمير الغائب على حكاية مولد الصبار عبر أحداثها الرئيسة والفرعية من خلال شخصياتها المحورية؛ بحيث تأتي العودة منجزًا سرديًّا، يحقق غاية المكونات الأولى، التي هيأت الأرضية الصلبة عبر الشخصيات الفاعلة في النص؛ فشخصية (عزيز) الذي ” كان عائدًا إلى بلدته الفياح من إحدى خلواته البرية… واتجه إلى تلٍ غير بعيد من سفح جبل بمحاذاة سلسلة جبلية عرفت بجبل الأجواد لكرم سكانه، وتلك الجبال واقعة في المناطق الحدودية بين الشمال والجنوب، وقد كانت المنطقة الجنوبية الغربية تحت حكم السلاطين، ويقع التل في الجنوب منها تحتضنه أراض زراعية من الجنوب والشرق، ومن شرقه يمر وادي الميامين، الذي يتجه جنوبًا”،- جاءت عودته عبر حركة الراوي السارد بضمير الغائب؛ لتسير حركة الأحداث المتداخلة بين الزمان(عهد السلاطين) والمكان (أرض الفياح ووادي الميامين)، بهدف تحقيق أرضية معرفية، وخلفية اجتماعية تهيء لميلاد تاريخ  أيديولوجي ينشأ في أحضانه الوعي القبلي والديني معًا؛ بوصفه موروثًا قادرًا على خلق بؤرة صراعية تتعارض فيها الرغبات والميول تجاه سلطة الأمر الواقع؛ بحيث تبدو شخصية (عزيز) القبيلية والدينية المتعصبة للقيم والعادات والتقاليد في وتيرة صراع محتدم تجلت بوضوح في أفعاله وتصرفاته، “أما عزيز فقد قرر في تلك الليلة تكوين حملة لتأديب قوم جبير؛ لحفظ هيبة القبيلة، وكسر أنف من يتجاوز سلطتهم”، أما شخصية كل من (جبير)، فقد ظهرت شخصيته بمواقف تتصف بالمهادنة مع رجالات أمن السلطنة، وتتعاطف معها، و”عندما اقترب العسكري من عزيز أمر العسكري عزيزًا بالتوقف، وناداه قائلًا: توقف يا عزيز!، غير أن عزيزًا لم يعر لكلامه اهتمامًا، وتابع خطوته الثانية، وما زال العسكري يحدثه: توقف، ألم أخبرك أن جبيرًا وأهله في حماية أمن السلطنة”،؛ لتشكل هذه الواقعة الوجه الآخر من الصراع، الذي تستفاد منه شخصية البطل المغيبة في بنية هذه الحكاية المحورية، وتستمد من التاريخ منفذًا للعودة المرتقبة، التي تهدف إلى الحفاظ على مكانة المنطقة المسلوبة بفعل الصراع، الذي أدى إلى التهجير الجمعي.

حكاية المهجَّرين:

       وهي حكاية محورية أخرى – (61- 154) – جاءت لتسرد أحداث متعددة بضمير الغائب عن حياة عائلة ومنطقة بشخوصها، التي تعرضت لمواقف مأساوية من قبل قوات الأمن في الدولة الوليدة آنذاك، وخسرت على إثرها ممتلكاتها، وقتلت خيرات رجالها، وتديرت بيوتها، وتهجرت نسائها وأطفالها قسرًا.

          وحكاية المهجرين سارت أحداثها على وفق تسلسلات زمنية متتالية تتناوب فيها أساليب الوصف للأماكن، وطبيعة المنطقة ووعورتها، وأساليب التصوير  المشهدية كمداهمات البيوت، وعمليات القتل والقصف، وحالات التهجير القسري ليلًا للأطفال والنساء، وكانت زمنية الأحداث في بنية حكاية المهجرين من نهاية الستينيات (1967) حتى منتصف السبعينات(1974)، وصارت تلك الأحداث في مخيلة شخوصها بمثابة خارطة طريق رسمت ملامح التهجير الإجباري بعد أن عاشت تلك الشخصيات أجزاءها بأحوال قاهرة من الفقر والعوز والتشرد، وانعدام التعليم والأمن. وهذه هي زوجة الحامد الشخصية الفاعلة داخل النص، التي ما زال البكاء في صوتها وملامحها بعد أن سمعت صوت المدافع على قريتهم؛ فقدمت تساءلها المركزي حول ما يجري في المنطقة؛ فيجيبها الحامد الشخصية المحورية في بنية الصراع: “اسمعي يا حبيبتي، أتعرفين أن رجالنا لم يكونوا على وفاق مع رجال السلطة الجديدة في البلدة؛ لأن معظمهم يرون فيهم الزعامة؛ فيلجأون إليهم لحل كثير من قضايا المنطقة- وكعادتهم منذ أجيال- وهذا كان يغضب رجالات السلطة، التي لم ترسخ نفوذها، متجاهلين أسياد القبائل وأعرافها، فضلًا عن الوشايات، التي توصل لهم من هنا وهناك”.  

حكاية رجولة قبل الأوان:

        وهي حكاية (155 – 209) جاءت لتسرد أحداث كاشفة عن ملامح رجولة الشخصية الرئيسة  قبل أوانها، وإلهامها للعديد من المواهب، التي سبقت عمرها، وصقلت مواقفها، وامتحان تجاربها، التي تحلّت بقوة العزيمة، والإصرار المبكر، والمشاركات الإيجابية الدالة على بطولته، وكانت زمنية الأحداث في بنية حكاية رجولة قبل الأوان من منتصف السبعينات (1975) حتى منتصف التسعينيات (1994).

       وحكاية الرجولة قبل الأوان سارت أحداثها على لسان الشخصية الرئيسة بضمير المتكلم حينًا وضمير الغائب حينًا آخر، التي جاءت على وفق تسلسل زمني متتالي يتناوب فيه أسلوب الوصف للأماكن التي عاشتها الشخصية الرئيسة، وتمتعت في وصفها، ورسم معالمها وملامحها ومواقفها، وانتقلت منها وإليها، ووصفت طبيعة الظروف وصعوبتها، أما أسلوب التصوير المشهدي فقد جاءت المشاهد مصورة ومجسدة لبعض المواقف، التي جسدت أنواعًا من الكفاح الاجتماعي والإنساني في سبيل تحقيق ممهدات ملامح العودة المأمولة، وظهور ملامح الرجولة في وقت غير زمنها غير أنها حملت هم العائلة والمنطقة، وما لحق بأهلها وأشخاصها من أحداث أدت بالأخير إلى تهجيرهم إلى المناطق الواقعة في الشمال، وكانت محاذية للجنوب، وتأتي محاولات الشخصية الرئيسة في النص كاشفة لحال المعاناة من جهة، ومعبرة عن المواقف التي قامت بها شخصية فارس الرئيسة بعد أن توافقت قوى الدولتين في الشمال والجنوب على حل قضية المهجرين من جهة أخرى؛ فـــ”بعد وقت قصير من عودة فارس إلى أهله، شهدت المنطقة تقاربًا سياسيًّا بين كل من سلطة الشمال وسلطة الجنوب، وعليه بدأت مضايقة الجنوبيين المهجرين في الشمال، ثم خير الجنوبيون ما بين العودة إلى وطنهم وبين الرحيل والالتحاق بمعسكر المهجرين الجنوبيين المقام في الصحراء الجنوبية التابعة لمملكة الدراعية المنطقة المحاذية لدولة الجنوب”.

حكاية العودة المرتقبة:

       وهي حكاية (210 – 378) جاءت لتسرد أحداث وأزمنة عودة شخصية البطل المتطابقة للمؤلف إلى أرض وطنه، وإعادة أمجاد عائلته ومنطقته وممتلكاتها المنهوبة، وإعادة الحضور النفسي والمعنوي والقبمي والحقوفي للعائلة والمنطقة إلى الواجهة بعد غياب طويل عن الوطن دام ما يقارب عشرين عامًا. وبعدها استمرت أحداث الحكي منذ العودة 1994م؛ حتى عام 2018م مفصلًا عن يومياته ومشاركاته الحزبية والسياسية والتربوية والأكاديمية.

       وحكاية العودة المرتقبة سارت أحداثها على وفق تسلسلات زمنية متتالية تتناوب فيها أساليب الشخصية الرئيسة بضمير المتكلم تارة والغائب تارة أخرى من حيث الوصف الخارجي والداخلي للأماكن وطبيعة الأعمال العلمية والتعليمية والحزبية من جهة، وأساليب التصوير المشهدية، التي جاءت مصورة وممثلة وراسمة لبعض المواقف، التي جسدت أنواعًا من الكفاح الاجتماعي والعسكري والسياسي والتعليمي في سبيل محاربة التهجير والجهل والحياة المعيشية من جهة أخرى.

     وتعدُّ العودة المرتقبة حكاية تتنوع فيها الأحداث، وتكثر فيها المواقف المختلفة لشخصية البطل المتطابقة مع المؤلف، وابتدأت من مغادرة البطل معسكر المهجرين، قائلًا: ” غادر فارس معسكر مملكة الدراعية بتصريح رسمي وجواز سفر رسمي تابع لها، وبهوية رسمية دولية تمنح للمتلحقين بقوة الأمن والأمان الخاصة متجهًا للدراسة إلى كلية الآداب جامعة الشرق العربية فرع(عروس الأبيض المتوسط)، وكان ذلك قبل بدء امتحانات العام الدراسي الأول بشهرين” .

      وفي أثناء اشتعال حرب صيف 1994م بين طرفي الوحدة اليمنية انتهزت المملكة العربية السعودية الفرصة في التخلص من معسكر المهجرين وقوته اللذين زرعتهما في أراضها وانهائهما كمعارضة انتهت دور اللعبة بها مما جعل الشخصية الفاعلة والمحورية تعترف بقولها: ” وفي مساء إحدى ليالي الصيف ونار الحرب مستعر بين الخصمين لشهرين مضيا، تفاجأ منتسبو قوة الأمن والأمان الخاصة بالاستنفار، وإلقاء محاضرة من قائد العام للمعسكر أبي الهادي، الذي بلغهم بإغلاق ملف المعارضة في المملكة، وتسليم المعسكر بعدته وعتاده خلال اثني عشرة ساعة، وطلب منهم مرافقته والمشاركة في الحرب إلى جانب الجيش الجنوبي، واستنكر الجميع الأمر على القائد، وتساءلوا: كيف نقف إلى جانب دولة الجنوب بعد مرارة السنين وهذا التشريد، وبعد عداء استمر ما يقارب ربع قرن من الزمن” .

        وبعد أن شاركت شخصية البطل الحرب، التي انتصرت بها قوى الشمال على الجنوب غادرت إلى المناطق الشرقية للجنوب؛ بهدف الخروج مع القادة الجنوبيين والهاربين من بطش قوى الشمال المنتصرة بالحرب؛ لاستكمال دراسته في كلية الآداب في جامعة الشرق العربية فرع (عروس المتوسط الأبيض)، وبعد حديث حواري دار بين شخصية البطل الرئيسة (فارس) وشخصية(أحمد) الثانوية، وهذه الشخصية هي أحد قيادات الأمن في دولة سلطنة عمان، فخاطبت الشخصية الرئيسة (فارس) الشخصية الثانوية (أحمد) بقوله” أيها الأمير أحمد اقتربت الامتحانات، وقد فكرت بالاتجاه إلى عاصمة الشمال لسهولة السفر إلى حاضرة الشرق من هناك؛ لكن أخشى أن يتم اعتقالي في الطريق، وفكرت بالتوجه الى المحافظة الحدودية مع بعض المسؤولين غير أني لا أجد سبيلًا إلى خارج البلاد”.

       وتتوالى الحكاية في سرد الأحداث  المتعددة من عمان إلى مصر، واستكمال الدراسة، ثم عودة البطل فارس في وسط فرحة غمرت أسرته وأهله؛ فــ: كان اللقاء يشيع في الحنين، وتخفق له القلوب، وفرح الأبوان بعودة ابنيهما سالمين معافين وفرحًا أكثر بالأحفاد، الذين يرونهم لأول مرة؛ فكان الحنين أشد إليهم، وتنازع الأبوان احتضانهم؛ لكن القلق والخوف من غموض المستقبل”.

       وبعد أن استقرت شخصية البطل (فارس) في بلدها بعد عودة طال انتظارها؛ فكان أول ما شرعت في عمله أن تبني مجلسًا تجمع فيه كل أبناء قبيلتها ومنطقتها، وعندما سألته الشخصية الثانوية (شاكر) بهذا السؤال المباشر، ماذا أنت فاعل يا فارس في هذا البناء الكبير، ردت عليه شخصية (فارس) الرئيسة: ” يا ابن عمي فأنا أري بناء مجلس كبير يتسع لأكثر من خمسين شخصًا، وسأسميه مجلس الشهيد عزيز، وماذا أنت فاعل بعد؟ ردت: لابد من رد اعتبار الآباء، ومحاسبة كل من له يد في معاناتنا”.

      وهكذا استمرت الأساليب السردية في بنية حكاية العودة المرتقبة، وتنوعت أحداثها، والسير بها في خط زمني يقوم على التتالي؛ فبعد العودة تعينت شخصية فارس في التربية والتعليم، ثم تسرد ما واجهت من صراعات مع قوى الإسلام السياسي، التي ترتدي الدين؛ بهدف الوصول إلى الهيمنة بالعملية التعليمية بمديريته ومن ثم تسرد مجموعة من الأحداث بعد أن انضمت في عضوية الحزب السياسي(المؤتمر الشعبي العام)، وبعدها تسرد معاناتها من عوامل الصراع مع قوى حزبها، الذي تنتمي له من جهة، والقوى المعارضة له من جهة أخرى؛ حتى انتهت  الرواية السيرذاتية في حكاية العودة المرتقبة بسرد وصول الشخصية الرئيسة الساردة من مكانة في مجالها العلمي والأكاديمي، وسرد أحداث العمل وما احتوى من صراع على التوظيف بالجامعة لاحتسابات سياسية، ومن ثم سرد أحداث كيف وصلت إلى قمة في شغل الوظائف العليا بالدولة ومؤسساتها التعليمية. 

بنية الشخصية:

      تحتل الشخصية مكانة مهمة في بنية العمل الروائي؛ فهي من الجانب الموضوعي أداة ووسيلة تعبيرية يحاول من خلالها الروائي أن يعبر عن رؤيته، ومن الجانب الفني فهي بمثابة الطاقة الدافعة، التي تتحلق حولها كل عناصر السرد، على وصف أنها تشكل المعايير النسبية في اختيار القيم الإنسانية وانتقائها، التي يتم نقلها من الحياة، ومجادلتها أدبيًّا داخل النص.

ومن هنا فالشخصية في العمل الروائي هي مدار المعاني الإنسانية، ومحور الأفكار والآراء العامة، ولهذا فالأفكار والمعاني، التي تحملها الرواية تحتل المكانة الأولى منذ انصرفت إلى دراسة الإنسان وقضاياه؛ فالراوي لا يسوق أفكاره وقضاياه العامة منفصلة عن محيطها الحيوي، بل تجدها متمثلة في الأشخاص، الذين يعيشون في المجتمع.

      وأول ما يميز الشخصيات في العمل الروائي حظها من البساطة والتعقيد؛ بمعنى أن الشخصيات قد تكون بسيطة وظاهرة في أحداثها ومواقفها, أو تكون مركبة من صفات متعددة، وغالبًا ما يكون النوع الثاني، إلا إنها تحتفظ بصفة واضحة تطغى على صفاتها الأخرى.

   وجاءت الشخصية في هذه الرواية السيرذاتية؛ لتشكّل ملامح الأحداث السردية، وتمنحها حضورًا وتفاعلًا عضويًّا تؤدي من خلاله دورًا بارزًا يلعب في رسم الحدث بأبعاده المكانية والزمانية، ويؤدي وظيفة أساسية تثير القارئ، وتخلق عنده الادهاش والامتاع.

      وتمثل الشخصية في الرواية السيرذاتية  مكونًا أساسيًّا من مكونات بنائها؛ فهي تصوّر الواقع من خلال حركتها مع غيرها، وتشكّله على وفق حالة يتداخل فيها الواقعي والمتخيل، وتأتي أهميتها من الدور الذي تؤديه داخل العمل الروائي السيرذاتي، الذي يجسد العوامل الخالقة للشخصية، وإظهار وقائع أفعالها الخيالية القائمة على السرد.

     والشخصية في الرواية السيرذاتية جاءت على نوعين: نوع يسمى بالشخصية الرئيسة، ونوع آخر يسمى بالشخصية الثانوية. والشخصية الرئيسة يختارها الكاتب بعناية؛ لتقوم بتمثيل الدور التصويري المراد أو الدور التعبيري الذي يعبر عن الأفكار والأحاسيس المتمحورة حول الأحداث؛ بهدف تشكيل الفكرة الأساسية؛ لتصبح شخصية بطولية معبرة عن موقفٍ فرديٍ.

      أمّا الشخصية الثانوية في الرواية السيرذاتية فغالبًا ما تكون في وظيفتها المساعدة، ودور عملها الثانوي، والمكمل لعمل الشخصية الرئيسة؛ الأمر الذي  يجعلها تقوم بدور العامل، الذي يربط الأحداث، ويساعد على إكمالها، سواء أكان بتسليط الضوء على الجوانب الخفية عن الشخصية الرئيسة أم كشف أبعادها المجهولة، والعمل على تعديل سلوكها.

الشخصيات الرئيسة:

         وتمثل شخصية كل من(عزيز/ جبير/ رجال أمن السلطنة) في بنية حكاية مولد الصبار شخصيات رئيسة وفاعلة اختارها الكاتب بعناية؛ لتقوم بتمثيل الدور التصويري لبداية الصراع بين القبيلة وسلطة السلطنة من جهة، ومن جهة أخرى تؤدي شخصية (عزير) دورًا تعبيريًّا يعبر عن أفكار القبيلة، وأحاسيس أفرادها المتعاطفة معه في الحفاظ على سيادتها وهيبتها، في حين تؤدي شخصية (رجال أمن السلطنة) دورًا رئيسًا في منع الخروج عن قانون السلطنة؛ بهدف تشكيل الفكرة الأساسية، وهي خلق نواة الصراع بين القبيلة والسلطنة؛ لتصبح شخصية (عزيز) من منظور القبيلة شخصية بطولية معبرة عن موقفٍ فرديٍ.

     وفي حكاية المهجرين تأتي شخصية كل من (بني حنظلة/ رجال أمن الدولة الوليدة بالجنوب) شخصيات رئيسة لعبت دورُا بارزًا في اشعال وتيرة الصراع ، الذي كانت سببًا رئيسًا في عملية تهجير بني حنظلة، لصراع نشأ مع رجال الأمن، الذين حاولوا اخضاع أسياد القبيلة بقوة قانون سلطة الدولة الوليدة بعد الاستقلال دون اكتراث لخلفياتهم القبلية، وأيديولوجاتهم الدينية والعصبية.

      أما حكاية رجولة قبل الأوان فقد جاءت شخصياتها الرئيسة في شخصية كل من (فارس/ والده/ أبي الهادي/ سلطة الجنوب/ سلطة الشمال/ رجال أمن مملكة الدرعية) اختارها الكاتب بعناية؛ لتقوم بتمثيل الدور التصويري لبداية صراع جديد ليس بين القبيلة وسلطة الدولة، بل بين سلطة الشمال والجنوب من جهة والجارة مملكة الدرعية من جهة أخرى، أصبحت قضية المهجرين عاملًا مهمًا في استقطابهم،؛ فبعد توتر العلاقة بين الشمال والجنوب أصبح المهجرون قضية بيد الشمال ضد الجنوب، وحين تحسنت العلاقة  بين الشمال والجنوب في منتصف السبعينات صارت قضية المهجرين قضية عربية بيد مملكة الدرعية، التي أنشأت لهم معسكرُا يأوي كل من عارض السلطة في الجنوب، وتؤدي شخصية (فارس) في حكاية رجولة قبل الأوان دورًا تعبيريًّا يعبر عن أفكار ليست للقبيلة فحسب، بل للمهجرين من أوطانهم، وأحاسيس أفرادهم المتعاطفة معهم في الحفاظ على حقوقهم ومكانتهم ومواطنتهم المسلوبة، في حين تؤدي شخصية (سلطة الشمال والجنوب ومملكة الدرعية) دورًا رئيسًا في منع تشكيل معارضات السلطات؛ بهدف تشكيل الفكرة الأساسية وهي خلق نواة الصراع بين السلطات وانظمتها، وبين المعارضة الممولة من الخارج؛ لتصبح شخصية (فارس) من منظور اجتماعي وعسكري وأكاديمي شخصية بطولية معبرة عن موقفٍ الجماعة.

         وتمثل شخصية كل من(فارس/ قوى الإسلام الساسي وقيادات الحزب الاشتراكي) في بنية حكاية العودة المرتقبة شخصيات رئيسة وفاعلة اختارها الكاتب بعناية؛ لتقوم بتمثيل الدور التصويري لبداية عودة دور القبيلة وسيادتها من جهة، ومن جهة أخرى تؤدي شخصية (فارس) دورًا تعبيريًّا يعبر عن أفكاره القبلية، والسياسية والاجتماعية وأحاسيس أفراد القوى المضطهدة مثله في الحفاظ على سيادتها وهيبتها واستراد حضورها وقوتها، في حين تؤدي شخصية (قوى الإسلام السياسي وقيادات الحزب الاشتراكي) دورًا رئيسًا في منع قوى الحكم والانفراد به من فريق الحزب الذي ينتمي له البطل فارس؛ بهدف تشكيل الفكرة الأساسية، وهي خلق نواة الصراع بين وعي فارس القبلي والأكاديمي والحزب الذي ينتمي له وبين القوى المعارضة؛ لتصبح شخصية (فارس) – من منظور سياسي واجتماعي وأكاديمي – بطولية معبرة عن موقفٍ سياسي يحاول من خلاله استعادة أمجاده، وحضور منطقته وقبيلته إلى الواجهة من جديد ورد الاعتبار له وقبيلته ومنطقته من جراء ما لحق بهم من ضرر وتشريد وتهجير.

الشخصيات الثانوية:

        تأتي شخصية (جبير/ مجيد) شخصيات ثانوية في حكاية (مولد الصبار) تساعد سرد الأحداث الجزيئة، التي تكمل أجداث الفكرة الرئيسة وتعمل على ربطها وإكمالها، سواء أكان بتسليط الضوء على الجوانب الخفية عن الشخصية الرئيسة(عزيز/ رجال أمن السلطنة) أم كشف أبعادها المجهولة، والعمل على تعديل سلوكها.

    وتـأتي شخصيات كل من (زوجة الحامد/ والحامد / أولاد عزيز/ أولاد مجيد/ وغانم وفارس الصغير) شخصيات ثانوية مساعدة في حكاية المهجرين، لتمثل الوعي القبلي لبني حنظلة، أما شخصية (حميد الناظر وبقية رجال الأمن) فهي شخصيات مساعدة تمثل وعي الدولة، وجاءت في متن حكاية المهجرين؛ لتساعد على سرد الأحداث الجزيئة، التي تكمل أحداث الفكرة الرئيسة، وتعمل على ربطها وإكمالها، وكشف أبعادها المجهولة، والعمل على اشعال وتيرة الصراع، الذي كانت نتائجه تجهير بني حنظلة.

        وتأتي شخصية (أبي الهادي وجنوده في معسكر التهجير/ وأصدقاء فارس في المدرسة، والقرى التي درس فيها) شخصيات ثانوية في حكاية (رجولة قبل الأوان) تساعد سرد الأحداث الجزيئة، التي تكمل أحداث الفكرة الرئيسة، وتعمل على ربطها وإتمامها من خلال كشف الجوانب الخفية عن الشخصية الرئيسة(فارس/ السلطات في الشمال والجنوب ومملكة الدرعية)، والعمل على إظهار رجولة هذا الفارس قبل العودة المرتقبة.

     وتأتي شخصية ( إخوانه وأولاد إخوته وقيادات الحزب الذي ينتمي له، ومحافظ وقيادات المحافظة وزملاء عمله التربوي والأكاديمي والقوى المناصرة لموقف المعارضة) شخصيات ثانوية في حكاية ( العودة المرتقبة) تساعد سرد الأحداث الجزيئة، التي تكمل أحداث الفكرة الرئيسة وهي العودة المرتقبة لرد الاعتبار سلمًا أو انتقامًا، وتعمل تلك الشخصيات الفرعية على ربط الأحداث الرئيسة وإتمامها من خلال كشف الجوانب الخفية عن شخصية عودة البطل (فارس)، والعمل على إظهار ما قام به البطل (فارس) بعد عودته، التي وصفها وشوَّق المتلقي لارتقابها.

(3) بنية المكان:

       المكان في الرواية هو “المكان اللفظي المتخيل؛ أي المكان، الذى صنعته اللغة انصياعًا لأغراض التخييل الروائي وحاجاته” (الفيصل 251)؛ فـــ” النص الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكانًا خياليًّا له مقوماته الخاصة، وأبعاده المتميزة”. (سيزا ص 74).

يعرف جيرالد برنس المكان بأنه “مجموعة من الأمكنة، التي تقع فيها المواقف  والأحداث المعروضة”؛ فالمكان في الرواية السيرذاتية نوعان؛ نوع جغرافي مادي ظاهر، يعمل الكاتب على رصد جزئياته المادية، مثل: الجبال والطرق والبيوت والمدن والمؤسسات التعليمية وغيرها، ونوع آخر غير مادي خفي، يعمل الكاتب على رصده من خلال الأدوات اللغوية ذات الدلالة، مثل: السفر، الخروج، والمرور بحقل أو بوادي وغيرها.

إنَّ الكاتب في الرواية السيرذاتية عندما يتعامل مع المكان بإدراكه الخاص، وخياله وأحاسيسه ورؤيته فهو يحاول من خلال ذلك أن يربط أحداثه بأفعال الشخصيات، التي تمارس القول المحكي على المكان؛ لتضفي عليه وعلى أحداثها ملامح من الخيالية السردية.

ويمكن أن نتناول المكان في هذه الرواية السيرذاتية لعوض العلقمي في محاور عدة، منها:

المكان الوعاء:

    عندما يكون المكان وعاء للأحداث والشخوص؛ فهذا يعني أن الكاتب العلقمي في روايته السيرذاتية يعبر عن روح القبيلة، وطبيعة المجتمع الذي عاشه وهجر منه والعلاقات الاجتماعية المتشابهة والمتعارضة، وهذا ما يبدو جليًّا في : (الحقل، البلدة، معسكر المهجرين، كلية الآداب، جامعة الشرق العربية وغيرها)؛ فهي أماكن جاءت كوعاء يحتوي الشخصيات وحركتها وتوجهاتها القبيلة والفكرية والثقافية والعلمية، ويبدو المكان ثابت في ارض ألفياح، وادي الميامين وجبال الأجواد والإسكندرية والأزمنة في ما قبل الاستقلال وبعده وأيام التهجير والدراسة في مصر، وجاءت الشخصيات في كل مكان وزمان متبدلة، ومتغيرة في أحداثها، وعندما ننظر إلى الأماكن، التي جعلها الراوي متقاربة جغرافيًّا، نجد أنها تتسع زمنيًّا، وتتنوع في أنماط الشخصيات، وأفعالها السردية.

المكان المهيمن:

       المكان المهيمن هو الذي يصبح متحكمًا في حركة الشخوص، ومسبباً للأحداث الرئيسة فيه، ونرى هذا في حكايتي مولد الصبار، والمهجرين، بوصفهما أمكنة تتمحور أحداثها في حكاية مولد الصبار في جبال الأجواد، وأرض الفياح، ووادي الميامين، وفي حكاية المهجرين تجد المكان يستوعب أحداث مورست في المنطقة المحاذية للجنوب، والمنقطة الداخلة بالشمال، و التهجير إلى مملكة الدرعية، والتدريب والنشاط العسكري  في معسكر التهجير، وجاءت  أمكنة مولد الصبار والمهجرين مهيمنة على تصرفات الشخوص، وهو السبب في قدوم (عزيز) الشخصية الفاعلة في “مولد الصبار” على فعل الانتقام لقبيلته في أماكن (جبل الأجواد ووادي الميامين، وأرض الفياح، ومنطقة البلدة)؛ بهدف رد الاعتبار لأهلها وأسيادها، وتأتي ممارسات الشخصية (جبير)، التي جلبت أمن السلطة لمواجهة أسياد القبيلة، وحدوث عمليات المواجهة والتصادم، ووقوع القتل والسجن والتي كانت بالأخير سببًا للتهجير من  أماكنها، وتشريد حياة عائلة البطل فارس وأهل منطقته المشهورين بالأصالة والقيم، وتحولوا إلى أفراد مشردين في غير مناطقهم، وبات أمر مصيرهم لا تحويه  إلا معسكرات التهجير، ومن هنا تغيرت معالم المكان، وتغيرت النفوس، وتصارعت الأحداث، وتبدلت الأفكار. والأمر نفسه نجده في حكاية رجولة قبل الأوان حيث نرى أماكن احتوت رجال القبائل الهاربة من بطش السلطة، وتحولت إلى أماكن مهيمنة، ودالة على سلوك وتكوين الشخصيات، التي بحثت إلى صناعة أماكن للمقاومة، وصارت في متن الحكاية هي الحدث الرئيس، الذي تدور حوله أحداث هجرة عائلة البطل وأهل منطقته، و” في الجهة الجنوبية من الجبل في مكان غير بعيد من تل بني حنظلة، تتجه العائلات المهجرة من الجنوب، المتبقة من بني حنظلة شمالًا نحو الجبل حيث أبناء العموم المنتشرين هناك، مكونة قافلة من النساء والأطفال مهاجرة بلا رجال”، وتختفي شخصيات كل من (جبير وعزيز)، وتأتي شخصيات (شاكر وحامد)؛ فالمكان هو المهيمن في كل ذلك، وهذا ليس مجرد أحداث فرعية، وإنما تبدأ الرواية بوصف المكان، ومن فيه، ومن ثم تتوقف عن ذكر حياة الشخصيات حسب ما ينتج عن المكان من خير أو شر، ويتفرع عن هذا المحور ما يسمى “معلم المكان المهيمن” ، الذي يكون فيه أحد مكونات المكان وهو البطل المهيمن والقادم الفارس قبل أوان عمره، كما في حكاية رجولة قبل الأوان، التي نشاهد فيها علاقة فارس بالقبيلة ثم الرحيل والبحث عن مأوى يستطيع من خلاله أن يستعيد من أمجاده ويعوض ما عانته عائلته ومنطقته من فقد وحرمان وتشريد وتهجير.

المكان الإطار:

        وفيه يتراجع المكان، ويكون على هامش النص؛ أي يكون إطارًا يكتفي السارد بذكر إشارات مكانية بسيطة إليه، تجعل القارئ يدرك إطار الأحداث الدائرة حوله؛ لأن صناعة الحدث هنا تتأتى من معطيات أخرى، مثل حكاية العودة المرتقبة وحالة عودة البطل،  الذي عايش أمكنة مختلفة  منها التدريب العسكري الموجود في مملكة الدرعية، وبعدها أماكن تأهليه العلمي وصولاً إلى أماكنه التي هجر وشرد منها، وهو بهذا قد اكتفى بذكر أمكنة منها معسكر المهجرين وكلية الشرق العربي والمناطق الشرقية للجنوب، التي شارك فيها بالحرب مع إخوته الجنوبيين ضد الشمال رغم تهجيره من حكمهم بعد أن تخلت السعودية عن معسكر التهجير، وجاءت تلك الأمكنة كإطار جامع للشخصيات التي تفاعلت في تلك الأحداث، حيث ظهرت شخصية البطل في هيئة عائد يحمل داخله أوجاع التهجير، وضغوط الترحيل من بين تلك الشخصيات ومترقب لحظة الانتقام بسبب مما حل به وعائلته وأهل منطقته.

(4) بنية الزمان:

الزمن هو “ذلك الكلام الهلامي الانسيابي، الذي عرفه الإنسان من خلال توصيفات متعددة متباينة تحولت وتطورت عبر تطور الوسائل المساعدة للوعي الإنساني”؛ فالزمن من هذا المنظور “هو الفترة أو الفترات، التي تقع فيها المواقف والأحدث المقدمة (زمن القصة وزمن المروي)، والفترة أو الفترات، التي يستغرقها عرض هذه المواقف والأحداث (زمن الخطاب وزمن السرد)، وهذا يعني أنه لا يمكن لأي نص سردي أن تتشكل بنيته دون الزمن؛ فالخطاب السردي يرتبط بهذه البنية المحورية؛ لأن الشخصيات ما كان لها أن تتحرك، والأحداث لا يمكن أن تتطور من دون زمن يحدد حركة هذ الشخصيات، ويضبط تطور هذه الأحداث؛ فالزمن في أبسط تصور له هو المادة المعنوية المجردة، التي يتشكل منها إطار كل حياة، وحيز كل فعل وكل حركة”. 

وإذا سلمنا بالتعريف السابق من أن الزمن مادة معنوية مجردة فإن عبد الملك مرتاض يؤكد الكلام نفسه؛ لكن بنظره تعميمية شمولية من أن الزمن “خيط وهمي يسيطر على كل التطورات والنشاطات والأفكار”.

ويأتي الزمان في الرواية السيرذاتية لعوض العلقمي في نوعين؛ نوع طبيعي، ونوع آخر نفسي.

الزمن الطبيعي:   

 يقصد به الزمن الفيزيقي (الكرونولوجي)، الذي يتم من خلاله تقسيم الزمن إلى فترات، وترتيب أحداث النص بتحديد تواريخ وقوعها مما يعني أنه زمن خاص بتاريخ انجاز المؤلف لنصه، وأهمية هذا الزمن أنه يربط زمن النص بسياقه التاريخي والاجتماعي.

وعبر تقنية استدارة الزمن يربط الكاتب/ الراوي عوض العلقمي بين الماضي والحاضر في لحظة زمنية فارقة حددها من عهد حكم السلطنة من الخمسينات مرورًا بدولة الجنوب بعد الاستقلال نهاية الستينات ثم مرحلة التهجير الأول والثاني من منتصف السبعينات الى التسعينيات وهي مرحلة توحد شطري اليمن في وحدة اندماجية وتلتها مرحلة العودة بعد أن غدر بالوحدة لدوافع وأطماع سياسية عام 1994م حتى استمرت أحداث الرواية وانتهت في عام 2018م.

إنَّ المساحة الزمنية التي أخذت بها رواية الترنية السيرذاتية ما بين بدايتها ونهايتها كانت 50عامًا تقريبًا وأكثر وهي فترة زمنية قليلة للغاية؛ لكنها كبيرة نوعيًّا بآلامها ومآسيها على حياة منطقة وعائلة فقدت وطنها وعاشت التهجير وانهكها الغياب والحرمان. فعندما عاد عزيز في حكاية مولد الصبار-  من جبل الأجواد إلى بيته، “وقد كانت المنطقة الجنوبية الغربية الحدودية – التي يسكن فيها – تحت حكم السلاطين. وهكذا يستمر الزمن في حكاية المهجرين، الذي اختلط فيه الزمان والمكان” في السبعينيات عندما أضحت شمس الصيف كعادتها تشيع في الجو حرارتها، وتزيد من لهيبها إذا ارتفعت في السماء…وفي الجهة الجنوبية من الجبل في مكان غير بعيد من تل بني حنظلة، تتجه العائلات المهجرة من الجنوب، المتبقة من بني حنظلة شمالًا نحو الجبل حيث أبناء العموم المنتشرين هناك، مكونة قافلة من النساء والأطفال مهاجرة بلا رجال”.

الزمن النفسي:     

  يقصد به الزمن، الذي لا يمكن ضبطه بالساعة والتقويم كالزمن الطبيعي، بل هو الزمن، الذي يتكون من لحظات شعورية خاصة تأتي المؤلف تبعًا لحالته النفسية؛ لذا فهو زمن نسبي لا يمكن ضبطه بأي حال من الأحوال.

وتتعدد مواقف هذا الزمن الكاشف عن شخصية فارس الرئيسة أو الشخصيات التي يسرد الراوي العليم لها أحداثًا كانت ضمن سيرته الذاتية؛ فهذه شخصية غانم عندما عاد من الكلية العسكرية بعد أن فقدت أسرته عودته إليها؛ نظرًا لبطش سلطة الأمن في منطقتهم والتتبع وراء أي فرد ينتمي إلى قبيلة بني حنظلة؛ لتنكيل بهم والتشريد والتهجير والقتل، وحين وصل متهربًا عبر الجبال المحاذية لوادي اللبان، ونزل مهرولًا إلى الوادي؛ بغية احتضان أهله لغيابه الطويل عنهم لما مروا به من مصاعب ومتاعب و” فجأة تنطلق رصاصة نحوه؛ لتعبر من فوق رأسه مباشرة حتى ألزمته مكانه، وينطلق من بعدها صوت يأمره بالوقوف، فدوى الجبل بعد دوي الرصاصة: قف مكانك …وإلا.. أسكنت الثانية في رأسك، وعرف غانم الصوت؛ فصرخ بأعلى ما تمكنه حنجرته من الصراخ، وقال: هذا أنا يا أبي… أنا غانم. وأسرع الصبي إلى أبيه المصعوق من الدهشة، وارتمى في حضنه، رمية افاق أبوه على إثرها من صعقة المفاجأة وأحتضن ولده بشدة، وكان بعضهم قد هرع إلى مصدر الجلبة، التي أيقظتهم في هذا الوقت المبكر”.

النتائج:

      من خلال دراسة رواية ترنيمة فارس السيرذاتية  لعوض العلقمي توصلت إلى النتائج الأتية:

أولًا، الجانب النظري:

الرواية السير ذاتية جنس أدبي مهجن يجمع بين ما ينتمي للسيرة الذاتية والاعترافات واليوميات وغيرها، وما ينتمي للرواية الخيالية؛ وبهذا فالرواية السيرذاتية هي خلاصة فنين سرديين، جعلت الرواية السيرذاتية تكون أقرب إلى الرواية من غيرها من الأجناس الأدبية.  

الرواية السيرذاتية صارت لها عناصرها الضابطة والشروط المحددة والخصائص والمميزة، ما يجدر الأمر بالقول: إنها فن أدبي سردي يجمع بين ما هو واقعي مع ما هو خيالي بعد أن يصهره الكاتب في صورة كتابة قائمة على التعبير عن المواقف والأحداث التي عايشها في المتن الحكائي(ازمن القصة وزمن السرد القائم على التتالي) أو يستعرض تلك المواقف والأحداث في المبنى الجكائي (زمن الخطاب وزمن المسرود القائمة على التتابع)؛ فبدت الرواية السيرذاتية بتجلياتها الموضوعية والفنية مادة صالحة للدراسة والنقد والتحليل.

الرواية السيرذاتية – على وفق عناصرها لا سيما الميثاق السيرذاتي بين الكاتب والقارئ، والتطابق بين وضعية المؤلف مع السارد، ووضعية السادر مع الشخصية الرئيسة، وتعيين القصدية، والموضوع من الكتابة، والجنوح بواقعية أحداثها وتعالقها مع الخيال الروائي- تصبح رواية سيرذاتية ناضجة البناء والسمات الفنية.

ثانيًا، الجانب التطبيقي:

عند تطبيق مفاهيم وعناصر ومقومات البناء السيرذاتي على رواية ترنيمة فارس لعوض العلقمي وجدت أنها رواية سيرذاتية ناضجة البناء والفن وشملت التصورات والاليات التي تجعلها أحد المحاولات الروائية السيرذاتية التي تتكلم عن الذات الجنوبية؛ بوصفها جنسًا أدبيًّا تحدثت عن شخصياته وسردت أحداثه ومواقفه تعبيرًا في المتن، واستعراضًا في المبنى عن حقبة تاريخية في جنوبنا الحبيب وحياة عائلة عاشت مأساة التهجير، والقتل والتشريد حتى بدت أضراره وانعكاساته على الذات واضحًا، وتضع القارئ المتلقي أمام محطات تاريخية يجب أن يستفيد من أخطائها ويعمل جاهدًا بأخذ العبر والعظات من عدم تكرارها. 

رواية الترنيمة السيرذاتية للكاتب عوض العلقمي جاءت بطابع ضمير الغائب أكثر من المتكلم ويعود هذا الأمر لسببين: الأول يرجع إلى فوبيا واقع الماضي وما شكله من تراكمات ظلت في الوعي قارة ومترسبة وتراها الشخصية الساردة في واقع التلقي العام من أن هناك عقليات لا تقبل التغيير، ولا تستوعب أضرار الماضي، وتعمل على كيفية معالجته ولهذا جاءت أماكن الأحداث، وأسماء الشخوص مبهمة وغير واضحة. والثاني أراه يرجع إلى تسامح الكاتب مع ذاته ومجتمعه؛ فجاءت أفعال الشخصيات ومواقفها معبرة بضمير الغالب حفاظًا على تماسك المجتمع، الذي يجب أن ينشر فيه روح السلام والمحبة، وما كتابة الرواية السيرذاتية بتحفظاتها عن واقعية الشخوص وأحداثها إلا رسالة تنبيه يريد الكاتب توجيهها عبر محتوى أدبي جمالي إلى المتلقي العام والضمني بعدم تكرار الماضي، بل يجب الاستفادة منه أخطائه السلبية وتطوير الأمور الايجابية.

رواية الترنيمة السيرذاتية للكاتب عوض العلقمي تكشف عن تحولات طريفة، ولمسات إبداعية في المتن الروائي؛ بحيث عمل الكاتب عبر الأحداث والمواقف التعبيرية أو الاستعراضية على نقل الحقيقة الواقعية من المتن إلى الذهنية وصيرورتها في الحمولات الدلالية من جهة ومنحها نثرات الخيال الذي تصبح روايته من الروايات التي اقتفت النضج الفني والموضوعي للرواية السيرذاتية.

رواية الترنيمة السيرذاتية لعوض العلقمي كشفت أن تقنيات المكان والزمان والشخصية جاءت في بناء محكم أضفى على الحقيقة التاريخية للحكاية بعدًا خياليًا خصبًا أهلَّها لتكون رواية سيرذاتية مميزة بمحتواها ومضامينها وسماتها الفنية.