كتب : د. مريم العفيف
بين فراغٍ يصرخ، وقيمةٍ تهمس، يُعرف الإنسان.
في كل العصور، كانت هناك محاولات مستميتة لإلباس الهشاشة ثوب الهيبة، وإخفاء الفراغ خلف جدارٍ مطليّ بالألقاب والمناصب. لكن الحقيقة التي لا تزول مع مرور الزمن هي أن الجوهر يفضح نفسه مهما تكاثرت الأقنعة. وكما أن الحمار إذا لُبّس سرج الحصان يُكشف بنهيقه، فإن الإنسان إذا استند إلى منصبٍ أو لقبٍ ليصنع لنفسه وقارًا، فإن ضعفه سيظهر، وجهله سيُفضح، وزيفه سيطفو مهما حاول إخفاءه.
القيمة ليست في الكرسي، ولا في القصر، ولا في زخرف الألقاب، بل في الإنسان ذاته: في عقله، في حكمته، في أخلاقه، في تعامله مع الآخرين، وفي أثره الذي يتركه بعد رحيله. التاريخ شاهد على ذلك؛ فقد مضت آلاف السنين واندثرت أسماء ملوكٍ وأباطرة، بينما بقيت أسماء حكماءٍ، ومصلحين، وعلماءٍ لم يحملوا لقبًا رسميًا، لكنهم حملوا في داخلهم نورًا لا ينطفئ.
حين يتحوّل القصر إلى حظيرة
من أوهام بعض البشر أنهم يظنون أن الدخول إلى قصر الحكم سيحوّلهم ملوكًا، وأن جلوسهم على الكراسي الوثيرة سيمنحهم الهيبة تلقائيًا. غير أن القصر إذا دخله “ثور” لا يرتقي به، بل يتحوّل القصر نفسه إلى حظيرة. المنصب هنا ليس رقيًا، بل مرآة تكشف حقيقة الداخل. فإذا كان الداخل فارغًا، أظهر المنصب خواءه على الملأ.
وهذا ما نراه في المشهد الإنساني اليوم: شخصيات هشة، لم تُربّها القيم ولم تُصقلها التجارب، تجد نفسها فجأة في موقع سلطة أو مكانة اجتماعية، فتظن أن تلك اللافتة هي ما سيصنع هيبتها. لكنها سرعان ما تنكشف أمام الناس، لأن سلوكها يعكس حقيقتها لا مسمّاها، وأصواتها تصرخ بفراغها أكثر مما تفعل ألقابها.
نهيق لا يُغطّيه أي سرج
الصوت هو أول ما يفضح الجوهر. وهنا يكمن التشبيه العميق: فالحمار، مهما ألبسوه سرجًا فاخرًا كالخيل، فإن نهيقه سيظل شاهدًا على حقيقته. وكذلك الإنسان: قد يحمل لقب “دكتور”، أو “مدير”، أو “وزير”، أو “قائد”، لكن كلماته، قراراته، وطريقة تعامله مع الآخرين، ستكشف ما إذا كان يستحق الاحترام أو لا. المنصب يستطيع أن يرفع الصوت، لكنه لا يستطيع أن يجمّل نغمة ذلك الصوت.
بين الاستحقاق والزيف
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض الألقاب حين تُمنح لأصحابها المستحقين تتحوّل إلى وسام شرف يزيدهم رفعة، ويضاعف أثرهم في المجتمع. هؤلاء لا يسعون وراء المناصب، بل المناصب هي التي تسعى إليهم، لأن علمهم، إخلاصهم، وثقافتهم تجعلهم أهلًا للمسؤولية. في أيديهم يصبح اللقب وسيلة لخدمة الآخرين، لا جسرًا للتعالي عليهم، وتغدو المناصب امتدادًا طبيعيًا لجدارتهم.
وعلى النقيض من ذلك، هناك من يهرعون خلف الكراسي والتسميات الوظيفية، يتشبّثون بها وكأنها خشبة نجاة من غرق داخلي. تراهم يتولّون مهامًا لا تمتّ بصلة إلى مستواهم العلمي، ولا تليق بذخيرتهم الثقافية، بل لا يملكون حتى أبسط مقومات الأداء فيها. فيتحول المنصب في حالتهم إلى قناعٍ مهترئ، سرعان ما يتآكل أمام أول اختبار حقيقي، ليكشف خواءً يثير الشفقة أكثر مما يثير الاحترام.
رسالة من التجربة
وعلى مدار سنوات طويلة في العمل والعلم، لم أسعَ يومًا إلى منصبٍ، ولا لهثت خلف رتبةٍ أو مكانةٍ. لم تكن بوصلة مساري يومًا مرتبطة باللافتات أو الكراسي، بل كانت جذوتها الحقيقية كامنة في تقديري لذاتي وثقتي بأن القيمة الحقيقية تنبع من الداخل. آمنت أن المنصب الشريف هو من يأتي إلى أهله، لا نحن من نذهب إليه. وأن بيئة العمل الحقيقية، التي تبحث عن التميز والريادة، لا بد أن تفتّش عن الكوادر الجديرة، لتتبوأ المراكز العليا وتتصدر المشهد، لأنها وحدها تصنع الفارق.
أما أولئك الذين يقتاتون على المناصب بلا استحقاق، ويحيطون أنفسهم بجلبةٍ زائفة، فما هم إلا “غوغاء إنسانية”، يعبدون فراغهم الداخلي، ولسنا من أهل هذا الطريق.
إن الاستحقاق الحق لا يحتاج إلى إعلان، والهيبة الحقيقية لا تحتاج إلى لقب. المنصب مرآة، يعكس جوهر صاحبه، فإن كان عظيمًا زاده عظمة، وإن كان فارغًا كشف فراغه للملأ. وما بين سرج الحصان ونهيق الحمار، يكمن الدرس الأبدي: أن الجوهر يسبق المظهر، وأن القيمة تنبع من الذات لا من الكرسي.
المناصب مرآة لا تصنع الهيبة؛ فمن سعت إليه المناصب زادته رفعة، ومن سعى وراءها فضحته، فالألقاب تلمّع السطح لكن المواقف تكشف الجوهر.